الطاهر حمزاوي
أذكره يا سادة يا كرام.. كان ضخم الهيئة، قمحي البشرة، إذا رقص بقدميه الضخمين اهتزت الأرض من تحتهما، وطار "العجاج". وشعرت فعلا أنه فحل دكالي يصلح أن يحفر الأرض أو يجر عربة مثل بغل وحده. وكم جعل من نفسه موضع سخرية، كأن يقول: "هناك من يقول: آودي الأكحل غير ديال الدراس، ولا ديال شي بدوزة وكروسة.. هاذ الدبس آديال الحرث"، فتنفجر الحلقة بالضحك. هذا هو الشيخ الطاهر، زعطوط، الذي كانت حلقته مقصد كل دكالي، عبر جميع أسواقها. من يذهب إلى السوق كان لا بد أن يقصدها. أنا مثلا يا سادة يا كرام كنت لا أفوت الفرجة حينما آتي السوق. تعرفت على حلقته في أولاد فرج، ولأنه لم يكن عندنا (ومازال ليس عندنا) مسرح، وربما لن يكون إلى أن تقوم القيامة، فإني كما زملائي في المدرسة كنا ننتظر يوم الأحد بفارغ الصبر كي "نفوج" عن أنفسنا ونتفرج على "بو الركابي" كما كان يحلو للشيخ الطاهر أن يسخر من نفسه، وهو في حمأة النقد للناس وللمجتمع وللذات، لكنه أيضا كان يلقي بالحكمة ويعاتب الجميع عتابا شديدا، وما يفتأ أن يستغفر الله، ويطلب منه المغفرة والسماح. الشيخ الطاهر كانت عدته دفترا وقلما، يستعملهما حسب المقام، لكنه في الغالب لا يعمد إليهما إلا في اللحظات التي يرى أن الموضوع جدي، أي حينما يتحدث عن العلم والحساب، أو عن الميراث، وفي الأخير يختم برقم "كرنتسيس" الذي كان لازمته من الأرقام لسر لا يعلمه إلا هو، ينفخ في يده ويرفعها إلى السماء ثم "طاف"، على الورقة دلالة على ختمها. لا شيء يلقي له بالا، ولا يريد من هذه الدنيا شيئا، فهو دائم التحذير منها، ويقول دائما: "تمتع بديالك وزكي وعرف الله، راه غير يدفنوك، يرجعو يقسمو الورث، والمرا تجيب الراجل، ويطلع في البلكون ويدخن، ويتبرع.." وهو يتحدث ويلقي بالكلام لا ينسى تمثيل المواقف لتقريب الجمهور أكثر من تلك الصور، والسفر بهم بعيدا، لدرجة كان الكثير من المتفرجين ينسى نفسه، فينظر إليه الشيخ الطاهر ويقول له بسخريته المعهودة وبلكنته الخاصة: "نوض تسيب بهايمكم وأنت حال فمك".. الشيخ الطاهر كانت حلقته فريدة، يتفرج فيها الرجال والنساء، والكل يغرف من "علم الشيخ" الذي يكون حريصا على الحشمة، لكن نقده يكون لاذعا، ويتطرق لجميع المواضيع ويغوص في نفسية المتفرجين، فيصل في الغالب إلى عملية التطهير، التي هي رسالته المبطنة، وإن لم يعلن عنها، فهو يريد مجتمعا متماسكا، يساعد بعضه البعض، ويعطي غنيه لفقيره. إنه يضحك الجميع، لكن دون أن ينقص من قدرهم، بل وقدر الإنسان الذي شرفه الله، فهو دائم طلب السماح من الناس، والمغفرة من مولاه. الشيخ الطاهر كان يحمل نكتته معه ومستعد في كل لحظة وحين للتفاعل، في أي مكان وزمان. أذكر يا سادة يا كرام، حينما ذهبنا للدراسة الجامعية في مدينة الجديدة التي كان يسكن بها، ويتحمل مشاق السفر منها إلى أسواق دكالة، أذكر يا سادة أننا صادفناه قرب محطة المسافرين، فقلنا له: "أهلا الشيخ الطاهر، كيف داير؟"، فما كان منه إلى أن التفت وبنظرته المعهودة ذات المعنى، وبطريقته الخاصة، وقال: "جيتو العفاريت حتى لهنا"، وانفجرنا ضحكا. كان أينما جلس يوزع المرح والضحك من حوله، لهذا كان يعرفه الجميع في المدينة وخارجها، يجلس مع المتعلمين كما مع الأميين. كان يستقي مواضيعه ونكته من الواقع الذي يعيش فيه. كان أيضا يقدر العلم ويبجل الفقهاء (أو الطلبة كما كان يسميهم) وكان يظهر ذلك من خلال حديثه وقصصه في الحلقة. ولمجالسته لهؤلاء، فكثيرا ما كان يستعمل آيات قرآنية أو أحاديث نبوية للاستشهاد بها، حتى وإن كان يزيد أو ينقص نظرا لأميته. وقد تمكن من أن يخلق له جمهورا حتى داخل الطبقة الميسورة، التي دفعت بعض أفرادها، إلى أن تؤدى عنه تكاليف الذهاب إلى مكة من أجل أداء مناسك الحج. وما كان طالب مال، كما باقي الحلايقية، بل كان قنوعا، لدرجة لا يسأل المتفرجين عطاء. اشتغل الشيخ الطاهر إلى جانب مايسترو الحلقة "ولد قرد"، لكنه حافظ على شخصيته وطريقته الفريدة ومواضيعه التي يتفنن في نقدها، وإضحاك الناس وهم يسمعونه يتطرق إليها لكنه دائما وإن لم يكرر بعضها يفلح في إيصال رسالته من ورائها. ويكفي أن كلامه حينئذ يصير متداولا للاستشهاد، فيقول الناس، قال الشيخ الطاهر.. وقال.. وقال... حينما دخلت التكنولوجيا الحلقة، استعمل الشيخ الطاهر "البوق"، لكنه لم يرتح له، وشعر بأنه يعرقل حركته، وحريته في التفنن في إيماءاته، مما جعله يتخلى عنه سريعا، ويسخر منه، ويعود إلى حريته، وهو المجبول على الفطرة في كل شيء. إنه شخص من زمان مغربي ابتعد عنا كثيرا.
|