السبت 23 نونبر 2024
راصد إنتخابي
آخر الأخبار
مغاربة العالم - الجهة 13
تابعونا على الفايسبوك

«ناشيونال ديموغرافي» بالدار البيضاء .. صخب السوق وسكينة المسجد

كازا 24 الأحد 24 دجنبر 2017

محمد بنعزيز/ عن:هسبريس

بينما يقوم الباعة بنشر سلعهم في محيط المسجد يرتفع صوت آذان العصر، المكان خال تقريبا والشمس حارقة، بعد الصلاة يتمدد ظل المسجد فيبدأ النشاط التجاري في الساحة حوله.

يمثل العصر المنطلق وما بعد المغرب قمة الرواج... هكذا ينضبط الإيقاع تبعا لمواقيت الصلاة في محيط المسجد الذي يقع في حي شعبي في الدار البيضاء. يمكن ذكر عشرات الأحياء التي ينطبق عليها الوصف غير سيدي مومن.

تبني الدولة مساجد كبيرة جدا وصوامعها مكسوة بحجر منحوت يعطي للبناء هيبة هائلة. للمسجد أربع واجهات وهو أكبر وأهم مؤسسة اجتماعية في المنطقة، تفتح كل يوم تمتلئ كل يوم وتسمح للملاحظ بافتحاص شاشة ناشيونال ديموغرافي الوحشية والرومانسية والروتينية.

هنا بشر ينشئون سوقا حول المعبد، بعضهم مهاجر في أوروبا جلب الكثير من الخردة وحول سيارته إلى دكان متنقل... بشر يتنافسون بشراسة حول الأماكن... يبيعون سلعا متلاشية، يمارسون مهنا موسمية وظرفية، يصرخون بالأمازيغية والعامية والفصحى مقصورة على بائع المسك والزنجبيل...

يستهلكون أكلات شعبية أي رخيصة...يخفضون الأسعار مع مرور الوقت... يتنافسون على جلب الزبناء...يتشاجرون لأسباب تافهة، يهدد بعضهم بعضا؛ وهذا يوفر فرجة يومية ساخنة، ثم ترتفع "الله أكبر"...يمنع الآذان التاجر من قتل زميله وهما يتعاركان على الموقع ويلومان الشيطان الرجيم.. وحين يقفان في صف يسجدان معا ينخفض توترهما ويستوي فقيرهما وغنيهما. قال نابوليون: الدين هو ما يمنع الفقير من قتل الغني.

يرى المسجد من بعيد ويسمع الآذان رغم الضجيج والزحام حوله. بعد الآذان يدخل التجار والزبناء والمتسكعون ليعيشوا لحظة سكينة نادرة في اليوم. قبل الصلاة لا بد من الوضوء في مراحيض جيدة واسعة مضاءة فيها ماء سلسبيل يريح العين بخلاف مراحيض آلاف الشقق الضيقة المحيطة بالمسجد ومساحتها ستون مترا.

لكن على الجدران كلام غريب يشكك في السكينة، مثل وصية "أيها المصلون احرصوا على أمتعتكم عند الوضوء"...كم من شاب أنيق واثق بأن التدين يزداد وقد صلى صلاة العشاء في مسجد مزدحم ولكنه عاد لبيته حافيا لأن حذاءه سرق.

المرحاض مدخل لفهم العالم

يوميا يغتسل الآلاف مجانا في مرحاض جيد لتجنب استخدام مرحاضهم الخصوصي الضيق، والذي فيه ماء بارد. في المقاهي دخول المراحيض بالأداء. وحده السوبر ماركت يستقطب أكثر من المسجد، لكن توجد أفضل المراحيض في المساجد، بينما مراحيض الأسواق الممتازة هي قيد الإصلاح منذ الطوفان. وحدها مراحيض ماكدونالد تتفوق على مراحيض المسجد.

يعتقد السوسيولوجي البصاص - الذي يكره المرحاض بسقف منخفض - أن المرحاض معيار حاسم لمعرفة الوضع الاقتصادي للأسر، وهذه خبرة مفيدة للمقبلين على الزواج. المرحاض معيارا طبقي بدون علم ماركس.

في مراحيض المؤسسات العمومية صنابير تصب كثيرا، يكفي أن تفتح ليستمر الصبيب، بينما في مراحيض المؤسسات الخاصة من مطاعم وسينما ومقاهي فالصنبور يصب قليلا ويجب أن تضغط كل مرة ليقطر بضع ثواني...

بعد مغادرة المراحيض يمشي المؤمن على زرابي وثيرة غالية نظيفة جدا. العالم هنا مناقض للسوق حيث الضجيج والغبار والحر...يشعر المؤمن بالسكينة ثم تطالعه كتابات غريبة مثل "الرجاء من الإخوة المصلين المحافظة على أمتعتهم وأغراضهم لكي لا يتعرضوا للسرقة".

يستحيل أن توجد هذه الكتابات حتى في سوق الذهب. لأن الناس هناك يحرُسون أشياءهم. في المسجد يسمحون لأنفسهم بالغفلة لأنهم رفقة المؤمنين. يقول المتصوفة إن النصارى لا يسرقون النعال في الكنائس بخلاف المسلمين..ينهى الإمام عن الخمر والسرقة ويحرص فعليا على جز مقدمة النعل البلاستيكي المخصص للوضوء حتى لا يسرقه أحد، بل ويكتب "خاصة بالمسجد" على سطل الوضوء لكي ينكشف من سرقه.

لمعرفة ناسيونال ديموغرافي يقارن السوسيولوجي البصاص بين أقوال الإمام وسلوك من يقفون ويركعون خلفه، يطلب الإمام من المصلين بأن يسووا صفوفهم ويسدوا الفرج ويغلقوا هواتفهم.. لا يسمعون الموعظة الثالثة.

الأكبر سنا يصلون بالسدل والشبان يصلون بالقبض. من مظاهر التعدد في المغرب أن الملك يصلي بالسدل ورئيس الوزراء عبد الإله بنكيران المخلوع كان يصلي بالقبض. وشيخ السلفيين المغاربة محمد عبد الوهاب رفيقي، المعروف بأبو حفص، يقر ذلك ولا ينحاز لأي منهما وقد وكتب في صفحته على فايسبوك أن "الخلاف بين من يقول بالقبض والسدل ليس خلافا غير معتبر كما كنا نظن ونتصور، فكما أن للقائلين بالقبض أدلتهم القوية لمن يقول بالسدل أدلة كذلك، من أبرزها حديث المسيء صلاته وليس فيه الأمر بالقبض...".

كانت العديد من المواقع اعتبرت صلاة بنكيران بجوار الملك محمد السادس بدعة، حين صلى الركعة الأولى بالسدل والثانية بالقبض. نسي وعاد للأصل...

في المسجد المغربي لا يثير هذا خلافا لكن المصلين بالقبض يتكاثرون بسرعة تحت رياح الفتاوى الشرقية... الملك لا يتأثر بها.

يزداد ممارسو الركن الثاني في الإسلام جماعة في رمضان والصيف. للاستجابة للطلب الظرفي تستحدث حول المساجد فضاءات عشوائية عبر تسييج مساحة وفرشها بالزرابي أو الحصائر حسب نقود المشرفين... مرة ظهر فأر أثناء صلاة التراويح فتسبب في هروب الآلاف بمحيط مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء... بعض المصلين يصلون في الطريق العمومي يوم الجمعة، فكيف خافوا من الفأر ولم يخافوا من الشاحنات؟

يتزاحم الملايين في صلاة التراويح...زحام شديد في الصلاة يفسره الفقهاء بالروحانية، بينما يقدم المؤرخ الملعون هوبزباوم تفسيرا آخر لأنه رأى الظاهرة في مكان آخر: "عندما تنعدم التسلية للتخفيف من وطأة الحياة الشاقة الكالحة تخلق اللقاءات الدينية تضامنا بين شتات من الناس "عصر الثورات" ص 424.. وهو يفسر ذلك أيضا بارتفاع الإنجاب بين الفقراء الورعين... وهؤلاء هم الزبناء اليوميون للفقيه لأنه يصعب عليهم الذهاب للشاطئ للاستمتاع. الصلاة مجانية بينما الشاطئ مكلف...

تنتهي الصلاة ويدعو الإمام بالفصحى ويردد المصلون آمين بينما يلتحق المتعجلون بسلعهم...العجيب أن النشاط التجاري يزدهر أثناء صلاة الجمعة فيخاطب الإمام الباعة الذين بقوا خارج المسجد: "دعوا تجارتكم وأقبلوا على صلاتكم"..مشكوك لو سمعوه أن يجدوا سلعهم حين يخرجون. الفقيه طوباوي والباعة واقعيون ويعرفون بعضهم...بعد الدعاء بالفصحى يعود الباعة للتلوث اللغوي الذي يتاجرون به في السوق.

عالمان تفصلهما عتبة

يصير المصلون ليبراليين يتاجرون ويقسمون مائة مرة في الساعة. لا مشاكل للدين مع قانون السوق. ممنوع تطبيق قانون السوق في الأخلاق فقط. بالنسبة للتاجر فالمال أساس كل خير، من يمارس التجارة يقبل المساومة والتجارة، تعلم الابتسامة في وجه الزبون.. ويدعو الدين للابتسام في وجه الأخ المشتري...يكون الزبون مغفلا بعد الصلاة.

بعد صلاة المغرب تنخفض درجة الحرارة ويصير محيط المسجد مركبا وملتقى للاستهلاك والمواعيد.. موقع للاطلاع على الموضة الدينية من لباس وعطور سائلة يقال إنها مسك وعنبر.. يجلس الرجال في محيطه بين المغرب والعشاء لتبادل الأخبار وتتحدث النساء عمن تزوجن مؤخرا...

هنا تظهر سلع الثقافة الشعبية في شكلها الجديد، تباع عصافير وأسماك في أحواض زجاجية صغيرة وورد بلاستيكي...أحيانا يحضر حاك شعبي ويشكل حلقة ويروي قصصه، لكن صوت الباعة يغطي صوته. كانت هذه الحلقة نموذجا للثقافة الشعبية القروية وهي تتبع زبناءها الذين هاجروا إلى المدينة وذوقهم يتبدل نحو تسلية حضرية توفرها التلفزة بشكل لا ينقطع.

يرتفع آذان صلاة العشاء فيهرع الشعب إلى المراحيض والاصطفاف خلف الإمام ويتكرر المشهد. لو خرج هذا العدد للمطالبة بالديمقراطية لتغير المغرب. هم لا يطالبون والمسجد يلبي جل مطالبهم.

يراقب السوسيولوجي البصاص المعبد والسوق. وخوفا من عمى المألوف يشحذ السوسيولوجي البصاص حواسه كي لا يجرفه الملل. يقر بأنه رغم صعود جيل ونخب رجعية تاجرة، غير أن البحث عن الربح يدفعها للمرونة، لذا للنساء حضور كبير في محيط السوق الذي لا ينام.

يغادر المصلون ويبقى قليلون للحديث مع الإمام. يفتي الفقيه رأسا لرأس وليس علنا.. إنها فتوى شخصية. الانتـقال من حالة النظام القبلي إلى النظام المدني يوجد فرقا بين مفت يتحدث بصوت مرتفع ومفتي انتقته ودربته وزارة الأوقاف يهمس لأن الفتوى شخصية لا يجب أن تتجاوز الجدران..فتوى ثنائية لا عمومية. ولا يملك الفقيه شجاعة مفتي البوق في فيلم "باب الواد" لمرزاق علواش.

وبعد العشاء يبدأ البشر في شراء عشائهم ومغادرة الساحة... يمكن بعد صلاة العشاء شراء كيلوغرامي بطاطس بأقل من نصف دولار وهي توفر وجبة كافية لتنويم أي جائع... يفرغ السوق تدريجيا، تنسحب الجميلات والأغنياء، ومن يتأخر كثيرا لا يملك ما قد يطمع فيه الغير...يحتجب الأغنياء مبكرا ويبقى الفقراء في الشارع لأنهم مضطرون للعمل وقتا أطول لكسب الرزق يوما بيوم ليرزقهم السوق.