يوسف الساكت /عن:الصبـاح
هكذا تراجعت الجماعة الحضرية عن هيكلة أكبر أسواق المغرب ولهذه الأسباب يشتري البيضاويون مادتهم الغذائية الأساس من «مزبلة»
هل تراجعت الجماعة الحضرية عن مشروع تأهيل سوق الجملة للخضر والفواكه، بعد تجاوز "هدف" رفع المداخيل إلى 101 في المائة؟ وهل تنفيذ جريمة "قتل" أكبر أسواق المغرب للجملة يمر بالضرورة عبر امتهان كرامة آلاف التجار الموظفين والزبناء واستنزاف جيوبهم إلى آخر درهم؟ وهل يعلم والي الجهة وعمدة المدينة ورئيس مجلس العمالة والكاتب العام للولاية (باعتبارهم أعضاء المجلس الإداري لشركة البيضاء للخدمات) أن ما يوجد بتقاطع شارعي إدريس الحارثي و10 مارس بمقاطعة سيدي عثمان مجرد "مطرح أزبال" دون أمن ونظافة وبنيات تحتية ومراحيض وقنوات للصرف الصحي؟ وهل يعلمون أن الإدارة تتعامل مع ملتمسات العملاء باستخفاف كبير من منطلق "أموالكم حلال ومطالبكم حرام"؟ أسئلة نعيد "تدويرها" في هذا التحقيق، مستعرضين هذه المرة أهم المعطيات التي تجعل من مشروع إعادة تأهيل سوق الجملة للفواكه والخضر مجرد "كذبة أبريل". إعداد: يوسف الساكت في نهاية 2014، وصل سوق الجملة للخضر والفواكه إلى أسوأ حالاته، ودخلت جرائمه واختلالاته واختلاساته الكبرى ردهات المحاكم وتابعها البيضاويون باهتمام كبير، وقد اكتشفوا أن السوق تحول إلى منجم كبير للفساد والنهب والترامي على المال العام، إذ كانت خزينة الجماعة تتوصل بالفتات، بينما توضع الملايير في الخزائن والحسابات الخاصة. عودة حليمة بعد حملة الاعتقالات والمحاكمات، التي أتت على كثير من أكباش الفداء وسلت الرؤوس الكبرى، كما تسل الشعرات من العجين، أطلقت الجماعة الحضرية عملية افتحاص وتشخيص كبرى، انتهت إلى عدد من التوصيات تحول بعضها إلى قرارات من أهمها تغيير نظام تدبير هذا الفضاء التجاري الضخم، من تدبير مباشر تتكلف به السلطات المنتخبة، إلى شبه مباشر عبر تفويض مهام التسيير والتأهيل والهيكلة لشركة للتنمية المحلية وفق عقد برنامج موقع عليه مع مجلس المدينة وموافق عليه من وزارة الداخلية. في الطرف الآخر، كان آلاف التجار والموظفين والزبناء وبعض الوكلاء ينتظرون ما ستسفر عنه مرحلة ما بعد "عملية التطهير"، خصوصا في الشق المتعلق بعودة الحيوية إلى السوق وخلق فضاءات لائقة لممارسة التجارة تضمن حقوق الدولة في الرسوم، وتحفظ كرامة جميع المتعاملين والشركاء في أجواء من الاحترام والتبادل والتعاون.
انتداب مع وقف التنفيذ في 2015، استبشر الجميع بالتوقيع على اتفاقية الانتداب لفائدة شركة البيضاء للخدمات المؤسسة في 2014 لهذا الغرض، والتزمت فيه بتسيير المرفق العمومي وضمان استمراريته واحترام قواعد السلامة والبيئة والنظافة والسهر على التنظيم وفق قانون داخلي، ووضع الإجراءات التي تضمن استغلال السوق في أحسن الظروف، كما التزمت الشركة بوضع مشروع للتأهيل ورفع مداخيله في السنة الأولى إلى 50 في المائة. منذ البداية، اعترفت الشركة أن الوضع كارثي، ويتطلب تدخلا عاجلا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوق يتحول بالتدريج إلى نقطة سوداء، بل إنه يفقد أهم عناصر سوق الجملة والبنيات التحتية الأساسية الضرورة لممارسة تجارة من الحجم الكبير، بل يفتقر السوق إلى البنيات الأولى، مثل الأمن والنظافة والمراحيض والطرق والممرات وتنظيم قاعات البيع، والأمكنة المخصصة لركن السيارات والحافلات والدراجات ومستودعات خاصة بالملاشيات والصناديق الخشية والسلال. والتهبت جدوة الحماس لدى مكونات السوق، حين انتقلت الشركة من مجرد التشخيص إلى التنفيذ، منطلقة من الشق المتعلق بأنظمة المعلوميات وأجهزة استخلاص الرسوم التي كانت تعاني تدهورا و"تخلويضا" كبيرا في الفترة السابقة، ثم إطلاق عمليتي "تحدي 2015" و"تحدي 2016" الخاصتين بتسريع وتيرة حصد المداخيل والإيرادات التي ارتفعت من أرقام هزيلة في نهاية 2014 إلى 126.7 مليون درهم نهاية 2015، ثم 140 مليون درهم نهاية 2016. بمعنى أن الجماعة الحضرية في ظرف أقل من سنة استطاعت أن "تعصر" التجار والمتعاملين والمنتجين لتصل إلى مداخيل خيالية لم تكن تحلم بها قفزت بزيادة 50 في المائة، حسب توقعات المجلس، إلى 101 في المائة، أي أن الجماعة الحضرية لم تستثمر أي درهم لتحصل على 14 مليار سنتيم في 2016، ولم تصرف أي درهم في 2017 أيضا وهي تتجه لاستخلاص 15 مليار سنتيم في نهاية السنة نفسها (7.5 ملايير في النصف الأول). هذه الأرقام تضعنا أمام وصفة خطيرة وغير مسبوقة في تدبير المرافق العمومية يمكن تلخيصها في: "الربح بصفر استثمار". وسرعان ما تحولت هذه الوصفة إلى نمط تفكير جديد لدى مسيري المدينة ومسؤولي شركة "خدمات" الذين وصلوا إلى قناعة مفادها: "إذا كنا نستطيع أن نربح 15 مليارا في السنة دون استثمار، فما الجدوى أصلا من تنفيذ مشروع للتأهيل سيكلفنا أكثر من 5 ملايير سنتيم؟". مداخيل بلا استثمار وليس صعبا أن نجد مبررات واقعية لهذا المخطط الجهنمي الذي يتم اليوم على حساب آلاف الملتزمين بدفع الرسوم والضرائب من تجار الجملة ومنتجين وأصحاب محلات تجارية بالسوق (حوالي 244 محلا)، أو التجار المتداولين في القاعة الكبرى، أو سوق أكادير (قاعة يطلق عليها هذا الاسم داخل سوق الجملة بالبيضاء). أولا من خلال "تحييد" دور وكيل المداخيل المعين من الإدارة الجبائية وإعطائه هامشا صغيرا للتحرك، خصوصا في لجنة الأثمنة الأسبوعية التي يترأسها مدير السوق، مقابل بعض الامتيازات، علما أن هذه اللجنة تعتبر أس البلاء، ومنها تنطلق كل عمليات توريط التجار في رسوم مبالغ فيها، أحيانا، لملء صندوق المداخيل. أيضا، وإلى حدود الساعة (وقد مر أكثر من سنتين على توقيع اتفاقية الانتداب) فإن الجماعة الحضرية لا تلتزم، وفق المادة الثالثة من الاتفاقية، إلا بمصاريف التسيير، أي النفقات المتعلقة بالسوق ومستحقات الأجراء والموظفين ومصاريف الماء والكهرباء والإنارة العمومية والهاتف والأنترنيت والنظافة والحراسة ونفقات الصيانة والتجهيزات وصيانة نظم المعلوميات والتأمين، وهي نفقات تصل سنويا إلى 380 مليون درهم. عدا ذلك، لم تضخ الجماعة أي درهم في برنامج تأهيل السوق، وفق المشروع الضخم المصادق عليه الذي يضم عددا من الأبواب والمجالات بغلاف استثماري يصل إلى 5 ملايير و418 مليون سنتيم تقريبا، موزعة على مليار و969 مليون سنتيم في 2016 ومليار و745 مليون سنتيم في 2017 ومليار و703 ملايين سنتيم في 2018. مشاريع مبالغ فيها وينطلق المشروع من هدفين رئيسين هما: تأهيل السوق وتحديث إدارته، وتتفرع عن كل هدف كبير أهداف صغيرة، منها تحديث وتطوير وسائل الإدارة، وتفعيل تنظيم إجراءات التدبير الضرورية للاستغلال وتحسين الخدمات المقدمة للمستعملين وتنظيم ومراقبة عملية الدخول إلى السوق وتقوية منظومات مراقبة المداخيل وتحسينها وترشيد النفقات. أما تأهيل السوق، فيطلب حسب الشركة، تأهيل أنظمة المعلومات ووضع منظومة للمراقبة بالفيديو وتكسية الممرات والمباني والمقرات والأبواب. ويتوزع المشروع على ثلاثة مجالات أساسية، هي تحديث نظام المعلوميات الذي رصدت له 359 مليون سنتيم موزعة بدورها على عدد من البرامج الصغيرة وإصلاح وتحديث وشراء المعدات والتجهيزات، وكل ذلك من أجل ضبط المداخيل ورفعها بنسب عالية، إرضاء لعمدة المدينة أولا، وحتى تستطيع الشركة أن "تُبرد" عمولاتها من الغلاف الاستثماري الإجمالي العام لمشروع التأهيل (10 في المائة) كما هي منصوص عليها في المادة 5 من اتفاقية الانتداب، أي حوالي 541 مليون سنتيم، من أصل5 ملايير و418 مليون سنتيم. ويتعلق المجال الثاني بأشغال التهيئة والإصلاحات والبناء، وهو المجال الذي يستنزف الجزء الأكبر من الغلاف الاستثماري بحوالي 4 ملايير سنتيم موزعة على ثلاث سنوات. وفي هذا الفصل نكتشف المبالغ الضخمة المرصودة لمشاريع صغيرة، من قبيل إصلاح أبواب وممرات وسقف قاعة وحفر آبار و"مشروع" تغطية منطقة بيع "الربيع" الذي خصص له 190 مليون سنتيم (والله ما كذبت عليكم)، أو إعادة فتح باب بـ75 مليون سنتيم!!! ويتمثل المجال الثالث في الآليات التقنية (70.5 مليون سنتيم)، ثم الدراسات التي رصد لها 70 مليون سنتيم. ورغم الحالة التي يبدو عليها السوق من خلال عدد من الزيارات التي قامت بها "الصباح" إلى المكان والروبورتاجات المصورة التي نشرت تباعا في صفحات الجريدة، والحالة المزرية التي تعيشها أغلب المرافق الغارقة في العفونة والأزبال وسوء التسيير، فإن الإدارة مازالت تتشبث بمقولة "لو طارت معزة". وتتحدث الشركة، في عدد من المناسبات، عما تصفه بالتغييرات الكبيرة بالسوق منذ تسلمها زمام التسيير الإداري قبل سنتين. وأكدت الشركة أن بعض مرافق وتجهيزات السوق وبنياته التحتية عرفت تحسنا كبيرا، من خلال تكسية الممرات وإصلاح 250 نقطة لتصريف المياه، وفتح الأبواب القديمة وإصلاحها، وتحديث نظام المراقبة عبر الفيديو وتسهيل الولوج عبر أنظمة جديدة. وقالت الشركة إن هذا التحسين الذي مس مجالات أخرى، مثل المراقبة والشفافية في التعامل مع جميع البضائع والمهنيين، انعكس على مداخيل السوق التي انتقلت من 110 ملايين درهم إلى 126 مليون درهم في مرحلة أولى، بينما يرى التجار أن ما يجري اليوم وبهذه الطريقة يقربهم أكثر إلى الإفلاس: أولا بسبب ثقل الرسوم، وثانيا لتعرض بضائعهم إلى التلف والكساد، ويعمدون إلى التخلي على أطنان منها في صناديق القمامة، كما تشهد على ذلك عدد من الصور والفيديوهات الآتية من داخل السوق. قرار جبائي ظالم في مقابل التوقف شبه الكلي لمشاريع تأهيل السوق التي تتقدم بوتيرة بطيئة جدا، تحرص إدارة السوق والجماعة الحضرية على الاشتغال بالمنظومة الجبائية نفسها المفروضة على التجار، أو ما يسمى"العشار". ولم يستوعب التجار إلى حد الآن كيف تقتطع ضرائب من رأسمالهم (تترواح بين 6.25 و7 في المائة) وليس من الأرباح التي يجنونها كما هو معمول به في جميع الأنظمة الجبائية في العالم. يعطي المهنيون مثالا على ذلك أن الشاحنة المحملة ببضاعة تبلغ قيمتها الإجمالية 30 ألف درهم يؤدي صاحبها رسوما تصل إلى 2100 درهم، بدل احتساب اقتطاعات جبائية من الأرباح التي جناها في السوق، واصفين ذلك بالظلم الجبائي الذي يتطلب رفعه في أقرب وقت. وأبرزوا أن هذه النقطة كانت موضوع اجتماعات ماراثونية منذ سنوات لم تؤد سوى إلى وعود لم تطبق على أرض الواقع، ليبقى التاجر هو الضحية، علما أن أغلب التجار لا يتوفرون على أي حقوق داخل السوق، كما أنهم محرومون من صفة تاجر ولا يتوفرون على أي وثائق تثبت ذلك، كما لا يتوفرون على تغطية اجتماعية كغيرهم من المهنيين في القطاع الحر. هذا الموضوع تجيب عنه الشركة باقتضاب، مؤكدة أن الرسوم المفروضة على التجار محددة بقرار جبائي يعود إلى 2008 ولم يطرأ عليه أي تغيير منذ ذلك الحين، علما أن مراجعة الرسوم الجبائية لا تغير إلا بقرار.
|