الاثنين 25 نونبر 2024
راصد إنتخابي
آخر الأخبار
مغاربة العالم - الجهة 13
تابعونا على الفايسبوك

بلحسين.. رحيل المصور بـ«قلبه»

يونس الخراشي الجمعة 10 يناير 2020

يونس الخراشي

لم يكن يخطر ببال الفارس المغربي عبد الكبير ودَّار، وهو يجر ويرخي لجام فرسه كويكلي ليعبر حواجز أولمبياد ريو 2016، أن هناك مصورا مغربيا، يقبع في مكان ما من المضمار الفسيح، سيلتقط له «صورة العمر».

فحين شاهد الفارس ودَّار تلك الصورة فتن بها. وطلب منها نسخة. ومن يومها وهو يتطلع لنور الدين بلحسين، المصور الفريد من نوعه، بإكبار وإجلال. ولكما بدا له أن بلحسين وضع يده على «زناد» مصورته؛ سلاحه القوي، إلا وابتسم، واستقام في وقفته، منتظرا ثمرة طيبة، تفتنه مرة أخرى.

كان بلحسين، الذي وافته المنية يوم الثلاثاء الماضي، عن عمر يناهز 63 سنة، ببيته بالدار البيضاء، يعاني ضعفا في البصر حينها. ومع ذلك، فقد التقط صورا مذهلة للغاية، جالت العالم في حينه، واستشهد بها كثيرون، وهم يعلنون اندهاشهم لجماليتها، دون أن يعرفوا صاحبها.

في تلك الرحلة، ومثلما حدث طيلة مساره المهني الغني للغاية، كان نور الدين بلحسين رحمه الله، يلتقط الصورة بقلبه أولا، ثم تخرج الآلات، كل مرة، ثمرة ذلك القلب الكبير، الذي أحب الحياة، وتعلق بجمالها، ومرح لها، وأسعد، بالتالي كل من حوله، بنكتة، أو "قفشة"، أو حكاية، أو مجرد ابتسامة، أو حتى تمطيط للشفتين ورفع للحاجبين، يعني ما يعنيه عند الراحل بلحسين.

هو من مواليد مدينة مكناس بتاريخ 7 يوليوز 1957. ونال تقاعده قبل سنتين تقريبا. وبينهما ظل كما هو، وكما عرفه القريبون منه والبعيدون عنه.

يستعمل السخرية في كل وقت. وحين يغضب، بعض المرات، مثلما يحدث لكل الناس، يغلق الباب، وينهي الحديث، ويبحث في الهدوء عن صفاء نفسه، حتى يستعيد حبه للحياة مجددا.

وفي مسيرته الطويلة، سجل نور الدين بلحسين أثرا للكثير من الأحداث الكبيرة. وعايش شخصيات كانت لها مكانتها في الحياة السياسية والرياضية والثقافية؛ وقل في الشأن العام كله، في المغرب.

وكل أحبه بطريقته، وأحب فيه ضحكته، وبخاصة قدرته الرهيبة على حفظ السر، ولا سيما حين يتعلق الأمر بتلك الأحاديث والأفعال التي يخشى السياسيون أن تصل إلى العموم.

ولأن الناس، كل الناس، يعانون في حياتهم شيئا ما. ذلك أن "لا راحة في الدنيا، ولا حيلة في الرزق، ولا شفقة في الموت". فقد عانى بلحسين مع السكري لفترة طويلة. غير أنه، حتى وهو يعاني مع مرضه، لم يكن متبرما، ولا متشكيا، ولا عبوسا. بل ظل يواصل العيش بما هو متاح له، مقدرا كل مسؤولياته، مستعينا بالصبر، وبالأنسولين، وبالضحك، وبحب الناس، على المرض.

حين كنا نستعد للذهاب إلى ريو البرازيلية، شهر غشت 2016، لنغطي دورة الألعاب الأولمبية، ألح علي عبداللطيف المتوكل، رئيس القسم الرياضي في جريدة رسالة الأمة، ورئيس الرابطة المغربية للصحافيين الرياضيين، "باش ندير بالي مع نور الدين". قال لي بكلمات محسوبة:"الله يرضي عليك، وقف عليه حتى ياخذ الأنسولين، واحرص على طعامه، ومشربه، فهو أمانة".

وعندما عدنا، سألني المتوكل عن صديق العمر، فقلت له ما عجب له:"كان الأجدر بك أن توصيه علي. فلم أر نور الدين بلحسين إلا شابا نشيطا، متحركا، متأهبا. يخرج من غرفته، كل صباح، بوجه بشوش، وملبس أنيق، ووسائل عمل منظمة، وعلى كتفه آلة التصوير، وفي يده حاملها، وكأنه غاد إلى حرب كبيرة. قوي العزيمة، بضحكة لا تفارقه. وحين نمشي، فهو يهرول. وحين نطلب الطعام، فهو أكول. وحين نقرر أن نذهب إلى ملعب آخر لنغطي منافسة أخرى، يتقدمنا. باختصار، كان بلحسين كما عهدته، رغم أنه بدا أكثر نحافة، وبوجه نال منه المرض. لقد كان متحديا، ونجح في التحدي".

حين بلغني، يوم الثلاثاء الماضي نعيه، تذكرته على الفور وهو يجلس على يميني في الطائرة المحلقة نحو البرازيل. ينام لفترة، ثم يستيقظ ليسألني:"هل وصلنا؟". وما أن أقول له:"ليس بعد"، حتى يضحك، ويقول لي:"كون غير رجعونا، ويلي، واش غندوزو عمرنا فهاذ الطيارة؟". ويضحك، ثم ينام مجددا. جلست مطولا أسترجع كلماته، وشكله، وقفشاته، وصبره على المرض.

أما في اليوم الموالي، وقد وجدتني بالصدفة مع جثمانه المسجى في السيارة التي تذهب به إلى مثواه الأخير في مقبرة الرحمة بالدار البيضاء، فقد كنت غير مصدق بعد أن الذي ندعو له بالرحمة، ويشيعه الكثير من الناس، هو فعلا نور الدين بلحسين. وإذ راح زميلنا عبد المجيد بنهاشم يتلو آيات من القرآن الكريم بصوته الجميل:" وَسِیقَ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَـٰلِدِینَ" (73 سورة الزمر)، وظهر زميلنا المصور محمد العدلاني وهو يحمل الشاهدة رقم 80، وقد كتب عليها نور الدين بالحسين، بالألف واللام، وهو اسمه على بطاقته الوطنية، لم يعد هناك شك بأن الضحوك مات، وأنه سيبدأ حياة أخرى، حياة أطول، حيث سيذكره الناس بخير، وسيستحضرون ضحكته وقفشاته، وصوره الرائعة.

رحم الله بالحسين. نور الدين بلحسين. الرجل الجميل. والمصور الكبير. والضاحك أبدا. وإنا لله، وإنا إليه راجعون.