في 25 يناير الماضي، أعطى الملك محمد السادس، انطلاقة تطوير مشروع المراقبة الحضرية بـ»الفيديو». «الصباح» انغمست، حصريا، في أعماق المشروع، لتكتشف وجود منظومة أمنية حديثة جدا، خلف المصطلحات التقنية والأمنية الموظفة أثناء الإعلان عنه، وتضاهي ما يوجد في العواصم العالمية الكبرى، ستعزز، لا محالة، إحساس البيضاويين بالأمن وستخفض معدلات الجريمة واحتواء مخاطر الإرهاب والأشياء المتحركة المشبوهة، وستمكن المتضررين من احتكاكات الشارع من «شاهد إثبات» لاستعادة حقوقهم.
المكان: مدارة ساحة الزلاقة بالبيضاء، التاريخ 25 يوليوز، في الساعة الرابعة صباحا و24 دقيقة و52 ثانية، تصطدم دراجة نارية بسيارة، لم تقع إصابات جسدية، لكن بسبب الخسائر التي أصابت المركبتين، ولغياب الشهود، تنازع السائقان أمام الشرطي حول أي منهما يتحمل مسؤولية الخطأ. احتار «الكونستاتور» للحظات، لكن سرعان ما تنفس الصعداء، حينما جاءه اتصال: «باشر الإجراءات، إن صاحب الدراجة يبدو صائد حوادث سير، ويوجد الإثبات». ذلك المشهد لم تعاينه «الصباح» في الميدان، وإلا كانت شاهد إثبات، إنما اطلعت عليه في مركز التحكم لنظام المراقبة الحضرية بـ»الفيديو» في الطابق الأرضي لمبنى ولاية أمن البيضاء، الغرفة ذاتها، التي أعطى منها جلالة الملك محمد السادس، في 25 يناير الماضي، انطلاقة مشروع تطوير نظام ذكي وناجع، للمراقبة الحضرية بواسطة «الفيديو». مشروع سيطور الغرفة الحالية، لترتقي إلى مستوى مصلحة قائمة الذات، ستوطن في بناية من أربعة طوابق، تجري أشغال بنائها، وهو المركز الذي يقول عنه عبد الإله السعيد، العميد الإقليمي رئيس الفرقة الولائية للشرطة القضائية بولاية أمن البيضاء، إنه «مشروع رائد في ميدان التدبير الأمني للمدينة، يعد الأول في المغرب، وستكون له نتائج غير مسبوقة في ضمان أمن الأشخاص والممتلكات، وسيسهم حتما في خفض مستوى الجريمة».
شاهد إثبات
لم تكن حادثة السير بين الدراجة النارية والسيارة في مدارة الزلاقة ، النازلة الوحيدة التي كانت فيها الكلمة الفصل للكاميرات، إذ يحتفظ أرشيف تسجيلات مركز التحكم، بتفاصيل حوادث سير، وعمليات نشل وسرقات واعتداءات، وشغب لجماهير رياضية، لم يحتر رجال الشرطة القضائية، ومصلحة حوادث السير، وغيرها من أقسام الأمن، في فك ألغازها، إذ وثقت فصولها مئات كاميرات المراقبة المثبتة في أكثر من رقعة ونقطة سوداء بالمدينة المليونية، حوالي 100 منها وضعتها مصالح الأمن، وما يقارب 500 تخص شبكة «الطرامواي»، وهي بدورها يتحكم فيها أمن البيضاء. ومن بين تلك الوقائع، عملية نشل واعتداء تعرض لها، في تقاطع شارع الحسن الثاني ومولاي يوسف، وسط المدينة، زبون مفترض لممتهني تقديم خدمات جنسية مثلية ينشطون في محيط حديقة الجامعة العربية، واعتداء «عالج» به عدد من الجانحين المتشردين، قرب مجسم الكرة الأرضية في باب مراكش، سكيرا في الخمسينات من عمره، لفظته حانات وسط المدينة في الرمق الأخير من ليلة خريفية، وجردوه من كل ما تبقى في جيوبه بعد ليلة صاخبة. ولا يعني ذلك، إلا شيئا واحدا: نظام المراقبة الحضرية بـ»الفيديو»، الذي أعطى جلالة الملك محمد السادس، الضوء الأخضر لأشغال تطويره وتوسيع امتداده، وتحويله إلى قسم رئيسي وقائم الذات، بغلاف مالي مجموعه 460 مليون درهم (....)، لم يكن، ولن يكون، مجرد نوافذ إلكترونية يعاين منها الأمن ما يجري في الشارع العام، بل «شاهد إثبات» لا يمس شهادته زور، ومطلوب جدا من قبل النيابة العامة والقضاء الذي يبت في الملفات، لدقة إفاداته، التي تكون في هذه الحالة تسجيلات، ترفق بالمحاضر. ويقول عبد الإله السعيد، العميد الإقليمي رئيس الفرقة الولائية للشرطة القضائية، إن: «نظام المراقبة، بمساهمته في إثبات المخالفات والجرائم، بمثابة العين الثالثة للأجهزة الأمنية من أجل ضبط المخالفات والجرائم، ويسهم حتما، في تغيير السلوكات اللاحضارية لبعض الأشخاص في الميدان الحضري والفضاءات العامة، ولإثبات الحقوق». يتحدث عبد الإله السعيد، في وقت يخرج فيه ضابط شاب، تلقى تكوينا متخصصا أهله للعمل في غرفة التحكم في النظام، تسجيلا، لتدخل أمني لإجهاض عملية سطو محكمة على مستودع أحد المصانع، وكان للعين الثالثة دور جذري في نجاحه. ويسترجع الضابط الشاب الحكاية، فيقول: «لما سمع اللصوص هدير سيارات النجدة ودراجات الأمن في طريقها لمداهمتهم وهم بصدد عملية السطو على المستودع، سارعوا إلى إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه، والتخلص من أدوات الجريمة تحت أشجار، ثم الفرار، ومع ذلك لم ينجحوا، لأننا في المركز كنا نعاين كل حركاتهم، والمسارات التي فروا عبرها، بفضل الكاميرا، فكنا على اتصال بفريق التدخل الميداني، ووجهناهم إلى الأزقة التي يسلكها الفارون وموقع إخفاء أدوات الجريمة».
الأمن الذكي
تلك المشاهد والوقائع، ليست سوى أمثلة تبسيطية لأدوار كثيرة يؤديها نظام المراقبة الحضرية بـ»الفيديو»، يفصلها عبد الإله السعيد، العميد الإقليمي الذي يتولى أيضا مهمة رئيس الخلية الولائية للتواصل، بلغة أمنية، وبنبرة اعتزاز، قائلا إن «هذه المنظومة الخاصة للمراقبة، تعتبر قيمة مضافة في الميدان الأمني وتأمين الفضاء العمومي». وتتجسد تلك «القيمة المضافة» في عدة أصعدة، منها حسب المتحدث ذاته،»المساهمة بشكل أوتوماتيكي في التنظيم الدينامي لحركة المرور وتنظيم النقل والسير والجولان». ولشرح الأمر، على نحو بسيط، يضيف عبد الإله السعيد: «مثلا، يحدث أن يوجد اختناق مروري وفوضى على مستوى مقطع طرقي ما، ورغم وجود رجل شرطة مرور في الموقع، لا يجدي مجهوده، نفعا، لكن بفضل عملية التقريب، التي تتيحها الكاميرات، نكتشف أن حادثة سير أو احتكاك، على بعد كيلومترين هي المتسبب في الاختناق، فيتلقى التعليمات للانتقال إلى الموقع، وبمباشرته الإجراءات تستعيد حركة المرور انسيابها(...)». انتظر السيد العميد، هل قلت تقنية تقريب وإبعاد؟ «نعم، ويوجد ما هو أكثر من تقنية التقريب، لأن المركز الذي دشنه صاحب الجلالة نصره الله، سيجهز ويزود بآليات وأجهزة وأنظمة من الجيل الذكي الجديد ». وسيمكن النظام، «بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي»، حسب العميد الإقليمي، من «الرصد المرئي والمباشر والأوتوماتيكي للحوادث والمخالفات، والرصد الحركي العام، مع تحديد الملامح والأشياء والعربات المتخلى عنها والمشبوهة، والسياقة في الاتجاه المعاكس، حتى في الظلام الدامس، لأن الكاميرات تتيح الرؤية الليلية بفضل تمتعها بتقنية الأشعة ما فوق الحمراء».
ابتسم للكاميرا
لا تتوقف مظاهر الإثارة في نظام المراقبة الحضرية بـ»الفيديو»، عند مكونات أجهزته، بل تمتد إلى خريطة مواقع «الكاميرات»، إذ يكشف عبد الإله السعيد، العميد الإقليمي، معلومات غير متوقعة: النظام سيغطي المدينة المليونية كلها، بما في ذلك المدينة القديمة والأحياء الشعبية. كما أنه، وعلى غرار نظام «شبكة الطرامواي» ومحطة القطار وميناءي المحمدية والبيضاء، ستكون «كاميرات» الوكالات البنكية ومراكز التسوق(أنفا بلاص، موركومول) وفضاءات الاستجمام، وعدد من المؤسسات، روافد ستصب كلها في مركز التحكم للمراقبة الحضرية بـ»الفيديو» لولاية أمن البيضاء. لم يشأ عبد الإله السعيد، العميد الإقليمي رئيس الفرقة الولائية للشرطة القضائية وخلية التواصل لأمن البيضاء، التصريح بمجموع الكاميرات التي سيتكون منها النظام، لكن توجد بعض الأرقام الدالة، المعلن عنها رسميا لمناسبة إعطاء جلالة الملك، انطلاقة المشروع. وفي هذا الصدد، تكشف قصاصة رسمية عن حدث التدشين، أن «النظام، سيشمل، علاوة على ربطه بكاميرات الطرامواي وكاميرات أخرى موجودة سلفا (المطارات، ميناءي الدار البيضاء والمحمدية، الأسواق التجارية الكبرى والأبناك) تثبيت 760 كاميرا مراقبة متعددة الاستعمالات، ومد 220 كيلومترا من الألياف البصرية، وتهيئة مركزين رئيسيين و22 مركزا متنقلا». وستعمل تلك العدة على تحقيق هدف إستراتيجي، يتمثل في تمكين الأجهزة الأمنية بالبيضاء، حسب عبد الإله السعيد، من مراقبة، يراهن على تسجيلاتها، «للقيام بتحليل وتقييم للأوضاع وإعادة ترتيبها حسب الأوليات، وتصحيح الاختلالات البنيوية والتنظيمية، حتى تستجيب المنظومة الأمنية، بشكل أكثر نجاعة، لمتطلبات الأمان وتأمين المباني والمنشآت والميادين الرئيسية». وسيشرع في استغلال النظام، بعد سنة من الآن على أبعد تقدير، إذ حددت تسعة أشهر، مهلة للانتهاء من أشغال تشييد مركز الطوابق الأربعة وتجهيزه، التي ستبلغ مساحة الواحد منها 500 متر مربع، ليكون المجموع 2466 مترا مربعا، ما يعني أن سكان البيضاء، عليهم، منذ الآن، الاستعداد لمنافسة سكان لندن، العاصمة البريطانية، في القول لزوار المدينة: «ابتسم لكاميرا المراقبة، فأنت في كازابلانكا».
تطبيقات الإنذار الأوتوماتيكي
وبين كل ذلك «الذكاء التكنولوجي» الذي سيتمتع به النظام، توجد ميزة مثيرة للغاية: حتى يتمكن النظام من أداء أدوار الرصد التلقائي والأوتوماتيكي، ستدمج فيه تطبيقات إلكترونية وقاعدة معلومات، تجعله يتعرف بمفرده على عدد من الأهداف الأمنية، عندما يرصدها، يصدر تنبيهات (آليرت) إلى الأمنيين حتى يتحركوا لوضع اليد عليها. ومن أمثلة ذلك: عندما يبلغ شخص عن سيارة مسروقة، سيتم إمداد «عقل» النظام بالمعلومات المطلوبة، وعندما يتعرف عليها، سيصدر تنبيها، يمكن الأمن من مسارها وموقع وجودها، والوصول إليها، وهي التقنية التي تسمى «التتبع الأوتوماتيكي للأشياء المتحركة».
بشرى للنساء... المراقبة ستشمل التحرش
حملت إفادات العميد الإقليمي، في لقائه مع «الصباح»، بشرى إلى النساء ضحايا التحرش الجنسي في الشارع العام، إذ أكد أن من بين السلوكات اللاحضارية، التي سيكون لنظام المراقبة الحضرية بـ»الفيديو» دور أساسي في تقويمها، مختلف أنواع التحرشات في الشارع العام. ومن أمثلة ذلك، أن نظام المراقبة عندما يرصد اعتداء جماعيا أو تشابكا في الشارع العام، أو تحرش مجموعة جانحين بمواطن أو مواطنة، يتم إشعار أقرب دائرة أو دورية أمنية، انطلاقا من غرفة التحكم لتتدخل في الميدان، ويمكن في إطار المساطر، أن تكون التسجيلات شاهد إثبات لفائدة المتضررين.
هل يهدد النظام خصوصية الأفراد؟
أمام ذلك الكم الهائل من الكاميرات الذكية والمتعددة الاستعمالات، ذات القدرة على الالتفاف ورصد حركات وسكنات البيضاويين في الشارع العام من زاوية 360 درجة، مع تحديد الملامح والجزئيات الدقيقة، يبرز سؤال أساسي: ألن يمس النظام بحريات المواطنين وتنتهك خصوصياتهم؟ بالنسبة إلى عبد الإله السعيد، العميد الإقليمي رئيس الفرقة الولائية للشرطة القضائية، لن يقع أي انتهاك لخصوصية الأفراد أو حرياتهم، بقدر ما سيعزز الإحساس بالأمن والطمأنينة، وسيؤدي حتما إلى تغيير بعض السلوكات اللاحضارية في الفضاء العام، علما أن مفهوم الخصوصية أو الحميمية في الفضاء العام، هو أصلا نسبي. وزيادة على تطمينات العميد الإقليمي، يستنتج من تجارب عدد من الدول، أن أنظمة المراقبة الحضرية بـ»الفيديو» في الأماكن العامة، لا تعتبر انتهاكا لخصوصية الأفراد، لأن أغراض المراقبة والتسجيل محددة بحكم القانون، والجهة التي تديرها معروفة ومسؤولة، على عكس «الكاميرات» المثبتة في الأماكن العامة المحدودة، مثل المقاهي والبنوك، التي يلزم القانون، بما في ذلك المغربي، أصحابها بتعليق إشارة أمام الباب تخبر الزوار أن الفضاء مجهز بكاميرات مراقبة.
إعداد: امحمد خيي
عن/ الصباح |