الاثنين 21 أبريل 2025
راصد إنتخابي
آخر الأخبار
مغاربة العالم - الجهة 13
تابعونا على الفايسبوك

بالدار البيضاء.. باحثون يواصلون استكشاف تاريخ البشرية (صور)

كازا 24 السبت 19 أبريل 2025

 محمد أصواب (ومع)

في الوقت الذي تعيش فيه مدينة الدار البيضاء على وقع التحضيرات لإستضافة كأس الأمم الإفريقية 2025 و كأس العالم 2030، حيث تناطح الرافعات السماء وتتشكل معالم المستقبل في خضم صخب أوراش تطوير المدينة... هناك ورش آخر، على بعد خطوات من "موروكو مول" وواجهاته البراقة، أكثر هدوءا، لكنه لا يقل طموحا .

خلف حواجز حديدية، يضم هذا الموقع ورشا من نوع آخر، ومن زمن آخر. هنا لا يتعلق الأمر ببناء المستقبل، بل باستكشاف الأزمنة الغابرة...، نتواجد في موقع "مقلع طوما 1" الأثري، حيث يواصل ثلة من الباحثين الحفر، حرفيا ومجازيا، في أعماق التاريخ البشري.

شهد هذا المكان، خلال الفترة الممتدة من 2 إلى 17 أبريل الجاري، مهمة بحثية في إطار برنامج "ما قبل التاريخ بالدار البيضاء"، وهو مشروع أبحاث أثرية مغربي- فرنسي يشرف عليه المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، التابع لوزارة الشباب والثقافة والتواصل - قطاع الثقافة، بشراكة مع وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية، ومختبر التميز "أرشيميد" (جامعة بول فاليري - مونبلييه)، والمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس.

 

مزودين بأحدث الأدوات، يعمل علماء آثار ما قبل التاريخ هؤلاء على تتبع خيط الزمن بعناية، وصولا إلى أقدم آثار للوجود البشري في هذه البقعة من العالم.

خلال هذا اليوم، كان الباحثون منشغلين بترميم جمجمة وحيد قرن، اكتشفت قبل سنوات في موقع "مغارة وحيدي القرن" الأثري بمقلع "أولاد حميدة 1" المجاور، والذي كشف عن أقدم بقايا حيوانات استهلكها البشر في الكهوف بالقارة الأفريقية.

في مكان معزول، أشبه بمختبر صغير، تعمل أخصائية في الترميم الحفري بصبر وإتقان.

ينصب تركيزها بالكامل على هذه الحفرية التي يعود عمرها إلى نحو 900 ألف عام. تنظف وتعيد تجميع قطع هذه الأحجية.

كل عظمة تعاد إلى مكانها المناسب.

من خلال هذا الترميم الدقيق تعود قصة كاملة إلى الحياة. 

وفي هذا السياق، قالت عالمة الآثار الحيوانية كاميلي دوجار، من المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس، والمديرة المشاركة لبرنامج "ما قبل التاريخ بالدار البيضاء "لا نستخدم الجبس لترميم هذه الأحفورة، بل رواسب مستخرجة من الموقع نفسه ممزوجة براتنج أكريليك. إنها طريقة دقيقة يمكن من خلالها المحافظة على قراءة القطعة وقيمتها العلمية".

وتابعت، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء "على هذه الجمجمة، كان لا بد أولا من إزالة الطبقات القديمة، ثم لصق القطع. كان يجب إظهار العظم وجعله قابلا للقراءة من قبل الباحثين".

بفضل هذا العمل الترميمي، أصبح من الممكن إجراء دراسات أثرية لتتبع علامات الجزارة والاستهلاك، وإجراء قياسات دقيقة.

ربما، مع القليل من الحظ، تضيف كاميلي دوجار، ستساعد هذه الجمجمة في حل لغز حير الباحثين لعقود: لماذا هذا العدد الكبير من بقايا وحيد القرن في هذا الكهف الصغير؟ هذا النوع من الحيوانات الضخمة لا يسكن الكهوف، ولا توجد أدلة واضحة على صيده من قبل البشر... لكن هناك دلائل على انجرافات وتحركات داخل الترسبات، كما لو أن الماء أو حيوانات أخرى نقلت الجيف.

 

وراء ترميم هذه الجمجمة، تتشكل تحقيقات متعددة التخصصات.

أسنان وحيد القرن هذا، المحفوظة جيدا، تحكي بدورها جزءا من القصة.

من جانبه، قال عالم الآثار وأخصائي ما قبل التاريخ، عبد الرحيم محب "من خلال تحاليل آثار التآكل فوق العظام عبر الملاحظة المجهرية ودراسة النظائر المستقرة، يمكن للباحثين إعادة بناء النظام الغذائي للحيوانات... وبالتالي الأوساط الطبيعية التي عاشت فيها، سافانا؟ غابة؟ كل أثر تآكل مجهري يصبح دليلا . كل تفصيل، وإن بدا تافها ، يهم. نحن نستجوب البيئات الماضية".

لكن ما أهمية هذه الأبحاث التي تتناول فترات زمنية بعيدة جدا بالنسبة لمدينة تعيد بناء مستقبلها؟ "هذه الأشغال والدراسات تدخل في إطار أشمل: وهو تثمين التراث الثقافي المغربي، إذ تجذب الدار البيضاء الآن أنظار علماء الحفريات والآثار من حول العالم"، يضيف هذا الباحث المشارك بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، والمدير المغربي لبرنامج الاستكشاف الأثري.

وتابع قائلا "من خلال هذه الاكتشافات، تتشكل قصة كاملة: قصة منطقة في قلب ما قبل التاريخ البشري، قادرة على سرد مغامرات المجموعات البشرية الأولى قبل ظهور الإنسان العاقل وأسرار الحياة البرية. قصة يسعى المغرب لسردها في المحافل الكبرى المقبلة".

جمجمة وحيد القرن السالفة الذكر، وبعد أن تكشف كل أسرارها وقصة بيئتها، ست عرض ما دامت الحياة على هذه الأرض، بالإضافة إلى قطع وشواهد مادية أخرى اكت شفت، في "منتزه ما قبل التاريخ" (الذي يخضع حاليا للتهيئة) بمقلع سيدي عبد الرحمان القديم. هذا المكان الذي اشتهر باكتشاف فك بشري جزئي سنة 1955 في "مغارة الساحليات"، يعود إلى حوالي 350 ألف سنة. 

وفق العالمة الآثار روزاليا غالوتي، من مختبر التميز "أرشيميد"، والمشاركة في إدارة برنامج "ما قبل التاريخ بالدار البيضاء"، فإن مواقع هذه المدينة تتيح آفاق ا لا غنى عنها لدراسة وإعادة تركيب تاريخ الثقافة المادية الأشولية في شمال إفريقيا، مشيرة إلى أنها تعد أطول ثقافة في تاريخ البشرية، وتميز فترة العصر الحجري القديم الأسفل.

جدير ذكره أن مدينة الدار البيضاء تضم عدة مواقع أثرية أخرى، منها مقلع أهل الغلام (2.5 مليون سنة)، الموقع L في مقلع طوما 1 (أكثر من مليون و300 ألف سنة)، مغارة البقايا البشرية في مقلع طوما 1 (780 ألف سنة)، مغارة وحيدي القرن (800-900 ألف سنة)، ومقلع سيدي عبد الرحمان (500-300 ألف سنة).

يتعلق الأمر بإرث أثري لا يقدر بثمن بالنسبة لمستقبل المدينة… والذي لم يكشف بعد عن كل أسراره وخباياه !