برج مراقبة/ الطاهر حمزاوي*

 لم أكن أعتقد أنه بعد سنوات طويلة من الغياب أني سأجد حال البلاد بقي تابثا سيئا وميؤوسا منه. لم يتحرك لا قيد أنملة ولا خطو جمل. بقي الحال ساكنا مغروزا في الأرض مثل سكين في القلب. كل شيء في هذه القرية كان يدمي قلب العدو فبالأحرى قلب الصديق

دخلت القرية حين أمطرت. ولما أمطرت السماء أزبلت الأرض. الأزقة صارت حريرة. و عالم الغيب وحده يعلم أني كنت أتوقع أي سيناريو إلا وأحدا وهو أن أجد نفسي في قندهار..فهل ماتت القلوب والضمائر إلى هذا الحد يا أولاد افرج. 

 ذهبت مجالس وجاءت أخرى والحال هو الحال. فآه عليك يا أولاد افرج من أبنائك وآه منكم يا ساسة الظلام! لم أعد أعرف و ربما إني لن أعرف أن هنا من يعشق الظلام والخراب، ولا يحيا إلا فيهما. كنت مجنونا لما اعتقدت أن الموت وحش لا يسكن هنا ولا يهمه سوى أن يلتهم كل شئ مثل الجراد. كل شيء هنا يصدح: خراب خراب. وتدق الطبول هو لن يعود، لن يعود، لن يعود الربيع. خراب خراب...انا ومن بعدي الطوفان.

-ماذا حدث؟ 

 إسأل روحك تقول أغنية لأم كلثوم يرتفع صداها مع خيوط الشواء في مقهى الزاوية. آه من مقهى الزاوية هاته التي نبتت مثل الشوكة في الحلق! هنا ترسم أشكال كثيرة لتضيع معها خيوط أمل كبيرة مع الدخان المرتفع في الهواء، فتضيع معها أحلام خلق كثير.

هنا في هذه القرية البئيسة حيوان كبير يخيف القنافيد فتتبعه ذليلة حقيرة.

تلك كانت اللقطة الأولى

 أما اللقطة الثانية فكانت مختلفة تماما، الحقول خضراء سعيدة بنزول المطر المبارك. الأرض تشكر السماء على عطائها الكريم . أما السماء فكانت ترد عليها بغناء العصافير. وتقول لها سأعطيك مادام هناك كلب ينبح وطفل يبكي وشيخ يسجد. جميل أن تتآلف القلوب.

 باب السماء مفتوح ولا يغلق وباب المنزل هنا لا يحتاج الى كلاب حراسة فأصوات الحجل تملك الإنذار المبكر. هي خير منذر لنور الدين من هؤلاء القادمين من مدن التيه. أطل من نافذة المطبخ وعاد إلى إكمال نصب الطاجين. وصل الخبر إليه بسرعة البرق وبه وجب الإعلام والسلام. 

-أهلا تشي غيفارا 

يسلم ويضحك. تظهر أسنان بدأ ينخرها الدخان.

لقد كان فعلا كذلك بلحيته الكوبية وشعره المرسل.

-كيف الحال؟ هاني؟

-بخير

-كاينش شي شقايفات

-مرة مرة مع الدراري 

-وكيف هي الأحوال مع الجيران؟

-دايرين علي الحصار.

 ويحكي  عن كحل الراس وما ينطوي عليه من خبث ومكر وهو يقدم لنا براد الشاي المشهر مع الخبز والعسل.

 لقد صار عليما بالبشر وأفعالهم، خبيرا بأحوال الفلاحة والسياسة وبني قلقل، والمنطوحة وما أكل السبع.

بدأت أحدثه عن سيرة تشي غيفارا وطموحاته

وآماله الكبرى في بناء عالم تسوده المساواة، وكيف اغتيل واغتيلت معه الأحلام في غابة..

  كنت أعتقد أني أقدم له جديدا. لكنه فآجاني بمعلوماته عن هذا الطبيب الثائر الذي مات فقبض رفيقه في النضال كاسترو على كرسي الحكم بيد من حديد. عض عليه بأنيابه حتى ظن أنه سيخلد عليه ضاربا مقولة رفيقه غيفارا أن الثوار لا يحكمون عرض الحائط.

قال لي نورالدين إنه تعرف على قصته في فيلم وثائقي، فتحدثنا عنه ثم عرجنا عن التكنولوجيا، فقال نور الدين أو لنقل تشي غيفارا إن العجائز صرنا هنا في البادية  يملكن هواتف البصمة وضحك ضحكة لها أكثر من معنى وقال إن العالم تغير.

الحمد لله، أخيرا صار في بيتنا تشي غيفارا، يحلم ..

حين تحدثنا عن واقع البلاد. قال لي:

-كل شيء سببه الجهل.

 تألم نور الدين كثيرا حين وجد الكلبة مقتولة بالسم تاركة وراءها أربعة جراء لم تفتح عيونهابعد ميتة هي أخرى.

قال نورالدين: والمؤلم أكثر وغير المفهوم لي أن من وضع لها السم وضعه في شهر رمضان.

وحكى لي نورالدين عن الكلب البوليسي الذي استجار به، فصار يطعمه وبدأت تنمو بينهما علاقة، لكن في إحدى الصباحات وجد الكلب يتلوى ويتقيؤ من شدة السم الذي وضعه السفلة مرة أخرى لحيوان أبكم زاعمين أنه يأكل الدجاج.

  هذه المرة تشي غيفارا لم يصبر، توجه إلى "مركز الشكايات" لتقييد شكاية في الأمر، لكنه لم يجد أذنا صاغية لشكايته. احتج واحتج ولم يفهم كيف لا يعطى الحق لا للإنسان ولا للحيوان في هذه البلاد. فرفع الشكوى لله.

هذه المرة قلت له أنا:

-إنه الجهل

ووجهت له السؤال: وماذا عن جمعية الرفق بالحيوان

قال لي: إن الناس هنا يتداولون أن البيطري يبيع الأدوية التي تتبرع بها إحدى الجمعيات من الخارج.

قلت له: حتى صحة الحيوان يبيعون ويشترون فيها.

  ضحك تشي غيفارا حتى بانت نواجذه وقال لي: اشرب كأس الشاي قبل أن يبرد.. لعن الله الجهل.

رشفت من كأسي رشفة وقلت له بدارجة دكالية :حضي راسك يلايقتلوك آتشي غيفارا ديالنا.

قال لي: كلشي ممكن في هاذ البلاد.

عدت أنا إلى مدن التيه، وبقي تشي غيفارا في ذهني مع حجله الرمادي. أما حيوان قريتي فسيقتله المرض لا محالة ويبقى تابعوه المذلولين أيتاما.

سير على الله.

(الطاهر حمزاوي/صحافي وقصاص )